الرماة
ما أجمل أن تحيا في هذه الدنيا وكأنك تحمل كِنانة سهام وراء ظهرك..
كلما مررت بخير ضربت فيه بسهم، حتى إذا ما انتهت سهامك حان مماتك ولقيت الله بخيرات منسية، وأعمال مرضية.
أعرف أصحابا لا يعرفون التوقف عن ضرب أسهم الخير…
بدءا من الحجر يميطه عن الطريق، وحتى الأذى يميطه عن القلوب!!
وحين تسأله إلامَ؟!
يقول لك: حتى تنتهي السهام!!
وكنانة أمثال هؤلاء لا تفرغ من السهام حتى تخرج الأرواح من الأبدان..
قيل لعبد الله بن المبارك : إلى متى وأنت تطلب العلم!؟
فأجاب : (لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم أسمعها بعد!!)
وسئل الإمام أحمد:”متى يجد العبد طعم الراحة؟
قال: “عند أول قدم يضعها في الجنة”
أمثال هؤلاء يفاجئون يوم القيامة بنواتج سهام لم يحسبوا لها حسابا..
بدءا من الحلوى التي أطعموها طفلا عند المسجد فأحب الله وبيته بسببها، وانتهاءً بكلمة قالوها فقدم سامعها الروح رخيصة لله من أجلها.
كثيرا ما تقرأ في كتب السير:
سمعت فلان بن فلان يقول كذا فوقع كلامه من قلبي موضع القبول، فكان سببا في هدايتي، أو صلاح حالي!!
وربما مات القائل وهو لا يعلم بهداية السامع!!
وربما مات الغارس وهو لا يعلم بعظم الأفياء، وغزير الثمار!!
وربما مات المجاهد وهو لا يعلم بعظيم الفتوحات، وتوابع الانتصارات..
فما وراء السهام يعلمه الله، وما وراء الغرس يعلمه الله..
المهم ألا يراك الله إلا راميا في كل خير بسهم، ومتقربا في كل موقف بعمل..
مر رجل بنا ونحن صغار يغرينا اللعب عن صلاة العصر في رمضان فقال لنا كلمتين وانصرف… وشاء الله أن تكون كلماته سببا في يقظتي من غفلتي، وانتباهي لأمر آخرتي، وربما لم يعلم الرجل ذلك.
وكان زاذان مغنياً .. صاحبَ لهو وطرب .. فجلس مرة في طريق يغني .. ويضرب بالعود .. وله أصحاب يطربون له ويصفقون ..
فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأنكر عليهم فتفرقوا ..فأمسك بيد زاذان وهزه وقال : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى..ثم مضى ..
فقال زاذان لأصحابه : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بن مسعود..
قال : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
قالوا : نعم .. قال زاذان .. فأُلقى في نفسي الَّتوبة، فسعيت أبكي ، وأخذتُ بثوبه ، فأقبل علي فاعتنقني وبكى ، وقال : مرحبا بمن أحبه الله ، ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن.. وصار إماماً في العلم.
لو أراد الله لهذا العالم أن يكون ملائكيا لكان… لكنه سبحانه أبى إلا أن يكون بشريا يملؤه الخطأ، ويعتري أصحابه التقصير، حتى يمتحن أصحاب الغرس والسهام..
فلا تفن عمرك في التألم والتأسف..
ارم سهمك وامضْ… وثق أن سهامك محصية، وأهدافك من الله مرصودة..
وما خير اليوم إلا حصائد الرامين بالأمس..
فإذا علمت ذلك لم يشغلك ولم يفتَّ في عضدك كثرة الفساد ولا أذى الفاسدين..
لأن المصباح الواحد ينير الشارع الكبير، والسهم الواحد ربما يوقع الهدف الكبير… لكن شريطة أن يفهم الرماة ذلك!!
د . خالد حمدي