كأس الحب ولغة الشعر المعتقة
قراءة نقدية في نص (على بُعدِ بَوح) للشاعر الموريتاني أحمد عبد الوهاب:
أولاً: أبيات النص:
عَلَى بُعْدِ بَوْحٍ مِنْ جَمَالِكِ أُبْحِرُ كَأنَّ جُنُونَ المَوْجِ حَوْلِيَ مِئْزَرُ
تُصَادِرُنِي عَيْنَاكِ .. فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لِأَنَّ بَرَيقاً مِنْ جَبِينِكِ مُسْكِرُ
وَحِيداً .. تَرَاءَتْ لِي مَزَامِيرُ صَمْتِنِا. وَنَاءَتْ مَرَاسَينَا … فَعَيْنَايَ تُمْطِرُ
نَدِيمِي بِهَذَا التِّيهِ كَمْ خَانَ خِلَّهُ أَيَا أَمَلِي.. قُلْ.. لِي..مَتَى.. سَوْفَ نَعْبُرُ؟
صَلاَتِي إِذَا مَا الوَجْدُ هَاجَتْ بِحَارُهُ: إِلَهِي لإَنْ أَنْجَيْتَنِي مِنْهُ أَشْكُرُ
أَخِيطُ سَمَاءَ الوَجْدِ لَحْنَ جُفُونِهَا أَيَا صَاحِبَ الضِّلِيلِ عَزْمُكَ أَكْبَرُ …
أحمد عبد الوهاب
ثانيًا: قراءتي النقدية حول النص:
إن الملمح الأبرز في هذه الأبيات هو التمازج بين كأس الحب ولغة الشعر المعتقة، بحيث يذوب الوجدان العاشق واللغة الشاعرة ويتمازجان في سيمفونية من الجمال، تعزفها الكلمات واللحن والإيقاع والأداء والرؤية الشعرية عبر تمكن جيد من أدوات اللغة الشعرية يغري بالقراءة والمتعة، ويجعل المتلقي يسكر، وكان هذا ما شدني للتوقف أمام هذا النص الفريد من هذه الزاوية.
إن لغة البوح هنا عالية بحيث تمثل قاعدة للرسالة الشعرية التي هي رسالة تندغم في الرسالة الجمالية عابرة المضمون إلى الشكل ومتطلباته الجمالية، أو بمعنى آخر عابرة المعنى إلى المبنى، ومبناك هنا شاهق!
تبدأ النص بانزياح جميل يدل على شاعرية كبيرة: (على بعد بوح) لقد حولت المسافة بينك وبين المحبوبة إلى مسافة عشق تتوزع بين محطات البوح، وعَبَرْتَ وجعلتنا نعبر معك، دون ضجيج أو ضوضاء، لأن الحب ينشلنا من ضجيج الحياة المعاصرة ومحطاتها المهلكة إلى ضفاف من البوح والهمس والراحة… ولكنها ليست محطات في الحقيقة: (على بعد بوح من جمالك أبحر) إنها أمواج العشق التي تعبرها ومن ثم تبحر، الجميل أن إبحار العشق بلا نهاية والغرق فيه جميل لأنه يعيدنا إلى حياة أخرى لم نكتشفها من قبل، حيث الغرق إعادة اكتشاف لحياة أخرى في الأعماق: أعماق كل منا، وأعماق الحياة إن شئت! ومن هنا تكون المتعة: (كَأنَّ جُنُونَ المَوْجِ حَوْلِيَ مِئْزَرُ) فالجنون محبوب، والموج هنا لا يقترن بمسألة التعرية التي تقترن بالعوم والغرق وهذا المجال الدلالي.. بل يشعر العاشق بالدفء (مئزر)
وفي هذه المحطات لا يستطيع العاشق السير بحرية، بل يتعرض للمصادرة والإيقاف باستمرار: (تصادرني عيناك في كل لحظة) وكأن المحبوبة هنا تترصده باستمرار في كل خطوة، بل تصنعه على عينيها.. ولكن هذه المصادرة تبدو لا إرادية من كلا الطرفين: (لِأَنَّ بَرَيقاً مِنْ جَبِينِكِ مُسْكِرُ) وحين تكون المصادرة والبريق مقترنين بالإبحار، فهذا يعني أن الشاعر يبحر في بحر من بريق العينين.. ليتداخل البريق والموج، والموج والبريق في حقل دلالي ينتمي إلى الجمال والبوح في النهاية.. وهنا تتداخل العوالم دون أن نشعر.. ما يعني أن الحب له أكوان متعددة كلها ينفتح بعضها على بعض..
وها هو أحد الأكوان الذي يدخلنا إياه الشاعر:
وَحِيداً .. تَرَاءَتْ لِي مَزَامِيرُ صَمْتِنِا. وَنَاءَتْ مَرَاسَينَا … فَعَيْنَايَ تُمْطِرُ
إنه (عالم الصمت) أو (كون الصمت) وللمحبين كون من الصمت مترامي الأطراف كما لهم كون من البوح، وكون من الجمال، وكون من الإبحار وهكذا… كون الصمت هنا له خصوصية شديدة (مزامير صمتنا) إنه صمت متناغم ينطلق بلغة العواطف المموسقة والأحاسيس المطربة والتواصل الهَزِج… وقد يكون عالمًا من التبتل في قراءة أخرى للفظ (مزامير) إذ ينتمي إلى مجال دلالي أقرب إلى التبتل والتسبيح والهيام الإلهي في مثل (مزامير داود) مثلاً.. وهكذا تبدو عوالم المحبين مترامية الأطراف ولا تحدها حدود.
والتعبير على هذا النحو: (وحيدًا تراءت لي مزامير صمتنا) يعني أن الشاعر ينفصل ويتصل بهذا العالم وفق عوامل نفسية عديدة، ثم الفعل (تراءت) يوحي بالبعد وربما السمو والترقب والاقتراب أيضًا، ما يعني أن عالم المحب يدنو بنفسه من المحب وإن انفصل عنه. والتعبير كله (وحيدًا.. تراءت لي مزامير صمتنا) ينقلنا إلى جو نفسي خاص، أو ذروة عالية من التأمل.. ثم يأتي التعبير المعمق لانفصال العوالم: (وناءت مراسينا) إن الإبحار هنا يواجه عقبات، فالبحور تنفصل ومن ثم تنأى المراسي.. والتعبير بالنأي وبالمراسي يعبر عن هوة كبيرة ونوع من الاغتراب بعد الإبحار والامتزاج.. ومن ثم تكون النتيجة (فعيناي تمطر) رمزًا للفقد والغياب والوحدة الدامعة… (وفي هذا السياق.. من الناحية الشعرية نقبل هذا التركيب: عيناي تمطر، الذي يخالف النحو، لأن الأصل: عيناي تمطران، فالفعل لا يفرد إلا إذا تقدم الاسم (فاعله المثنى أو الجمع)، وبإمكان الشاعر أن يقول: عينيَ بفتح العين وبالإفراد، وبذلك فلا شيء عليه ولكن لعله قصد التكثير، وهنا أختلف مع النقاد اللغويين في تخطئة مثل هذا التركيب، للسببين السابقين!!)
ولعله حين يكون الأمر هكذا (أي كون هذا التركيب رمزًا للفقد والغياب والوحدة الدامعة) فإن هذا ما ينعكس على حقل الصمت في قراءة أخرى، ليعني عالم الصمت هنا (تراءت لي مزامير صمتنا) نوعًا من التعويض…
وهذا ما يفسر تحول البحر إلى تيه:
(َندِيمِي بِهَذَا التِّيهِ كَمْ خَانَ خِلَّهُ أَيَا أَمَلِي.. قُلْ.. لِي..مَتَى.. سَوْفَ نَعْبُرُ؟)
هنا نتحول تدريجيًّا بين ثلاثة عوالم: (الإبحار- الصمت- التيه) وكلها يوصل بعضها إلى بعض.. وربما تتداخل هنا صورة المحب مع النديم، فلا ندري هل يخاطب المحب حبيبه الذي يشبه النديم في حانة الحب، أم يخاطب نديمه وقرينه في حالة السكر والضياع المماثلة لحالته، وهذا التداخل يتناسب مع حالة التيه التي دخل فيها الشاعر واختلطت عليه الأمور.. وهذا التداخل يتضح في تركيبين متجاورين: (كم خان خله) و(أيا أملي) الأول قد ينصرف إلى النديم الذي خان صديقه أيضًا، وفارقه، لتكون المفارقة مزدوجة، والثاني (أيا أملي) ينصرف إلى المحب، ويتداخل التعبيران مرة ثانية في النهاية (قل متى سوف نعبر) فمتى نعبر المتاهة أو متى نعبر أزمة الشراب والسكر لنعود إلى الانسجام .. إنها حالة من التخبط الروحي، حين تغيم الرؤية في عين المحب/السكران معًا..
ومرة ثانية نعود إلى عالم من الإبجار ولكنه الإبحار في كون آخر:
صَلاَتِي إِذَا مَا الوَجْدُ هَاجَتْ بِحَارُهُ: إِلَهِي لإَنْ أَنْجَيْتَنِي مِنْهُ أَشْكُرُ
إنه الإبحار في عالم الوجد بما فيه من ألم وانتفاض، وهنا تعالق نصي جميل مع القرآن الكريم واستدعاء لآية ترتبط بموقف خطير تتعلق فيه النفس بخالقها حين لا تجد سواه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }(يونس22) الشاعر هنا يقوم بنوع من التداخل الجميل، لينقل لنا عالم الحب ويقربه من عالم الهلاك، ولا يجد سوى الله مخلصًا له من هذا الهلاك، لذا يتضرع إليه ويصلي ويشكر .. وهو ينقل كل هذا إلى (عالم الوجد) فالوجد قاتل.. وهكذا يستثمر الشاعر تراثه ببراعة لتثمير تجربته الشعرية في أرض فنية راسخة…
ثم ينتقل الشاعر في بيته الأخير إلى عالم آخر، وربما هو عالم مشتق من نفس العالم الأخير:
أَخِيطُ سَمَاءَ الوَجْدِ لَحْنَ جُفُونِهَا أَيَا صَاحِبَ الضِّلِيلِ عَزْمُكَ أَكْبَرُ …
إنه الانتقال من اليابسة إلى البحر إلى السماء، ويبدو الشطر الأول مربكًا (أَخِيطُ سَمَاءَ الوَجْدِ لَحْنَ جُفُونِهَا) من الناحية الإعرابية، فقد تكون (لحن جفونها) منصوبة على نزع الخافض، أي أخيط سماء الوجد بلحن جفونها، حيث يبدو اللحن هنا خيطًا لجرح الوجد الذي يتسع عليه في قراءتنا الخاصة لهذا الانزياح الدلالي، وقد يكون بدلاً من سماء، ليتساوى الطرفان : السماء واللحن، في حالة الوجد هذه .. وفي الشطر الثاني: (أَيَا صَاحِبَ الضِّلِيلِ عَزْمُكَ أَكْبَر) يُحدث الشاعر التفاتًا جميلاً يحقق به نوعًا من الانتقال الأسلوبي من ضمير المتكلم إلى المخاطب تعبيرًا عن حالة من الانفصال والتمزق التي يمر بها المحب، لا سيما حين يقترن هذا بلقب تراثي (الضليل) هو لقب امرئ القيس الشاعر الضليل، الذي ضل في طريق السعي إلى هدفه، حتى انتفض قائلاً –بعد حياة السكر والخمر طالبًا ثأر أبيه- : (اليوم خمر وغدًا أمر) والشاعر هنا يريد أن يفيق من الوجد والغفلة ويرى مصيره، لعله يعود إلى بحر الحب بكل ما فيه من غيبوبة أو إلى شط الحياة بكل ما فيه من صحو، وبهذا التعالق النصي الجميل الذي يضخ المعاني ويقوي من النسيج الجمالي للنص نستطيع أن نفسر الشطر الثاني ..
ولعل معجم الأبيات بما فيه من مفردات توحي بالاتساع والترامي والسمو يوحي في البنية العميقة بتجربة تتسع فيها العواطف وتتسامى فيها الروح لننفتح على كون مترامي الأطراف ما يعطي للتجربة مذاقًا خاصًا في التلقي، وكأن روحنا تتسع بمداها الجمالي بعد قراءة هذا النص، الذي يمنحنا أمداء جديدة، إذ إن كل نص جميل فيه اتساع لروحنا، يوسع من رقعة الجمال والإحساس والتفاعل الكوني.
السيد العيسوي
شاعر وناقد، مسؤول النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي – مصر