ارتق بروحك

الصبر ضياء

إن الحديث عن الصبر بالنسبة للمسلم حديث لا يتناوله قول البلاغيين ” إن من بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال ” ذلك لأن المسلم منذ بزوغه إلى معترك الحياة ينطلق من إيمان عميق مفاده أنه خليفة الله في أرضه وإذا عظم المطلوب قل المساعد ” ومدرك أن القيام بهذا التكليف حق القيام يقتضي التسلح ولبس دروع من الصبر تقيه بأس منعرجات الحياة و منعطفاتها – ولباس التقوى ذلك خير فلا غنى عنه في كل وقت وعلى كل حال فكلما ادلهمت الخطوب وعم الظلام وجه الحياة وانكشفت شمس الأمل في وجه المشككين والمبطلين تمدد ضياء الصبر عند المؤمن فبددت الظلام وأمطرت سحابة كل أجرد يابس وأرسلت الرياح اللواقح من روح الإيمان إلى قلوب المؤمنين لتتفتق ينابيع الحكمة فيها فتخرج للواقع المتحرك “حدائق ذات بهجة ” تأكل من ثمراتها البشرية الهزيلة بواقع جوع الضلال والمعيشة الضنك يتظيلل تحتها وفي كنفها المحترقون بنيران التيه والخذلان. لذلك كان القدر المطلوب منه على قدر المطلوب من الإيجاد و”التغيير ” {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ منَ الرُّسُلُ وليس معنى هذا أن الصبر يختصر على حبس النفس عن الجزع “كما هو شائع عند اللغويين فحسب بل إن الصبر هو مطلق “الحبس ” سواء كان هذا الحبس على أمر مرغوب أو مرهوب وهو الجاري على عرف الاستعمال الشرعي كما سنوضح بإذن الله وحديثنا عن الصبر يكون من جانبين أساسيين:

أولا فضله وتعريفه:

” هو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل ويسهل عليه صعوبة المراد ” ابن القيم إن للصبر من الفضل والمكانة في ميزان الشرع ما تضيق عنه هذه القصاصة٬ ولكن بالإشارة يفهم أولوا الألباب فالقرآن والسنة زاخران بذكر فضله والثناء على أهله: يقول ابن القيم “إن الله سبحانه ذكر الصبر في كتابه نحو تسعين موضعا فمرة أمر به ومرة أثنى على أهله ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله ومرة جعله شرطا في حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياءه ورسله فقال عن نبيه أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صابراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وقال تعالى عن خاتم أنبياءه ورسله {فَاصْبِرْ كَمَا صَير أوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل } {وَاصْبَرُ وما صَبْرُكَ إِلا بالله وقال يوسف الصديق وقد قال له إخوته {إِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيُصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وأحاديث كذلك كثيرة ومتنوعة من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أبي سعيد الخدري “ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر وقوله صلى الله عليه وسلم والصبر ضياء”.

ثانيا: أنواعه ووسائل الحفاظ على هذه الأنواع:

إن الصبر كما هو معروف عند أهل السلوك ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

– صبر عن المعصية

– صبر على الطاعة

– صبر على البلاء.

الصبر عن المعاصي:

 وهو أعظمها في قول جمع من أهل العلم ذلك. إن النوعين الآخرين يعودان في كثير من صورهما إليه والصبر على المعاصي ينشأ من أسباب عديدة كما يقول ابن القيم رحمه الله وقد أوصلها إلى عشرة تذكر بعضها باختصار:

-1 علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل…

2- الحياء من الله سبحانه.

-3- مراعاة نعمه عليك وإحسانه عليك فإن الذنوب تزيل النعم ولابد ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ”

قال بعض السلف أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم

4 – خوف الله وخشية عقابه…

5 – محبة الله سبحانه وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعصيته فإن المحب لمن يحب مطيع …

-6 قوة العلم بسوء العاقبة … وقبح الأثر والضرر الناشئ منها من سوء الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه

وحزنه وألمه … وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه…

7- شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها وتحتقرها وتسوى بينها وبين السفلة.

8 قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله…

9- وهو الجامع لكل هذه الأسباب: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن المعاصي إنما بسبب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أثبت وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر..

الصبر على الطاعة

والصبر عليها كما يقول ابن القيم ينشأ من معرفة هذه الأسباب المذكورة في الصبر عن المعصية ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه

الصبر على البلاء

وهو بحر زاخر يتميز فيه الغث من السمين والخبيث من الطيب والصادق من الكاذب وأسباب الصبر على البلاء عديدة كما يقول ابن”القيم ونذكر هنا أهمها :

شهود جزائها وثوابها

شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها

شهود القدر السابق الجاري بها وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق فلابد منها فجزعه لا يزيده إلا بلاء شهود ترتبها عليه بذنبه كما قال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } ” يقول علي ابن أبي طالب ” ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة.

– أن يعلم أن الله ارتضاها له واختارها وقسمها … فأقل مقاماته فيها الصبر عليها ….

 

أ. أحمدو اعزيزي 

من أرشيف المجلة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى