الإخلاص ومكانته
يكتسي الإخلاص أهمية عظيمة وميزة كبرى تجعل المتحدث عنه لايخشى الاجترار ولا الإملال…ذلك لأنه رأس الأمر في العلاقة مع الباري سبحانه..
والناظر في النصوص الشرعية كتابا وسنة يدرك ذلك بجلاء…
ولقد كان سلف هذه الأمة على مر التاريخ يقف عند الخصلة تدريسا ودرسا وأطرا للنفس…ذلك لما ارتكز في نفوسهم الكبيرة وقولبهم الطاهرة من تعظيم لله وخوف من دخن العلاقة معه…
من هنا أحببت أن أقتدي بهم سيرا على النهج وتشبثا بالمنهج ..وتوعية لجيل يحمل أكبر وأطهر مهمة عرفتها دنيا البشرية”مهمة الدعوة” حتى لاتجتاله حظوظ النفس وتزين وتلبيس الشيطان…
وقد قسمت المقال إلى المحاور التالية:
_مفهوم الإخلاص لغة واصطلاحا
_مكانة الإخلاص
_نماذج من حرص السلف على الإخلاص وخوفهم من الرياء
أولا الإخلاص الإخلاص لغةً:
قال ابن منظور : خلص الشيء ، بالفتح ، يخلص خلوصا وخلاصا إذا كان قد نشب ثم نجا وسلم . وأخلصه وخلصه وأخلص لله دينه : أمحضه . وأخلص الشيء : اختاره ، وقرئ : إلا عبادك منهم المخلَصين ; والمخلِصين ; قال ثعلب : يعني بالمخلِصين الذين أخلصوا العبادة لله تعالى ، وبالمخلَصين الذين أخلصهم الله عز وجل .
وأما في الاصطلاح :
فقد عرفه علماء السلوك بتعربفات عدة منها:
تعريف ابن القيم في المدارج قال هو:(( تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.)).
يقول الهروي: “الإخلاص تصفية العمل من كل شوب”.
ويقول بعضهم: “المخلص هو: الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله”. وقال يعقوب المكفوف: (المخلص: من يكتم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه). وقيل: (المخلص: مَن يستوي عنده مادحُه وذامُّه).
وسُئل التستري: “أي شيء أشد على النفس؟! قال: “الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب”.
ويقول سفيان الثوري: “ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ.
ثانيا: مكانة الإخلاص
إن الإخلاص هو روح كل عمل يراد له القبول وهو الأساس الذي لايقوم البنيان دونه ولا قيمة لعمل لم يبن على أساس من الإخلاص لذلك أمر الله به عباده قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
البينة ٠٥.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور-في كتابه التحرير والتنوير في سياق حديثه عن هذه الآية- : “والإخلاص : التصفية والإِنقاء ، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره .
والدين : الطاعة قال تعالى : { قل اللَّه أعبد مخلصاً له ديني } “.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة لله قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ الزمر الآية٠٢
وأمر الله عباده بإخلاص الدعاء له؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ الأعراف: 29
وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى، فمنْ كانَتْ هجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُولِهِ فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ، ومنْ كاَنْت هجْرَتُه لدُنْيَا يُصيبُها، أَو امرَأَةٍ يَنْكحُها فهْجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَر إليْهِ”متَّفَقٌ عليه
وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة الثلاثة الذي نجاهم الله من الكرب بفضل إخلاصهم لله عز وجل، فعن بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج)). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري. فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت إني لا أستهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)). وراه البخاري
وعَنْ أبي مُوسَى الأَشعرِي رضي الله عنه قالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً ويقاتِلُ رِياءً، أَيُّ ذلِك في سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “مَنْ قاتَلَ لِتَكُون كلِمةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا فهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ”
وقد كان في جيش المسلمين يوم أحد رجلان أحدُهما قزمان العبسي كان يقاتلُ المشركين بضراوة وبسالة ولكنه كان يفعل ذلك رياءً وحميَّة وحفاظا على أمجاد قومه ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(هو في النار )
وفعلا لما أثخنته الجراح قتل نفسه،
والثاني الأصيرم -عمرو بن ثابت بن وقش – لم تسبق له صلاةٌ ولا عبادة وإنما مرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى أحد فأسلم ثم ذهب معه إلى القتال فقاتل حتى قُتل ثم وجده بعضُ بني قومه وهو يتلفظ الشهادتين ،قال البدويُّ في نظم الغزوات :
أبلى بلاءً حسناً قُزمانُ على الحفاظ فله الخُسرانُ
وعكسُه الأصيْرمُ المُخردل ليس له غير القتال عملُ.
وقد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتى به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» رواه مسلم.
فالله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، لايقبل إلا ماتمحّض لوجهه،
فحري بالمؤمن أن يحذر على عمله من آفة الرياء فهو مدمر للعمل محبط له، وقد اعتبره أهل العلم عاقد رايات أمراض القلوب، قال الشيخ آدّه في المطهرة:
وشَمِّرْ إن أَخَذْتَ في دَوَاءِ * عَاقِدِ أَلْوِيةِ ذِي الأَدْوَاءِ
أَعْنِي الرياءَ أَحَدَ البَوَائِقِ * إيقاعُ قُربةٍ لغير الخالقِ
بل طَلَبًا لِنَفْعٍ أو لِحَمْدِ * مِنْ خَلْقِه أو اتقاءِ الضِّذِّ.
وقال الشيخ محنض باب بن امين حفظه الله:
والْتفرحنَّ إن هديت للرشادْ* لا إن سمعت من بذكرك أشادْ
ولْتحزننَّ إن عصيت ربكا*لذاك لا لسبِّ من قد سبكا
فلن يضر الذم عبدا وفّقَهْ*للرشد ربه الذي قد خلقه
وليس ينفع الثناء بعدا *أن يبعد العدل الحكيم العبدا
فاشتغلن بالله عن عباده *واستشعرنَّ الخوف من إبعاده.
وقد قال ابن القيم : وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسنته التي لا تتحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ويُلبس المرائي ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض وما هو اللائق به.
نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثا: نماذج من حرص السلف على الإخلاص وخوفهم من الرياء
١- قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف وقال: لا يراني هذا أنِّي أقرأ فيه كل ساعة.
٢- يقول الحسن البصري: ” إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به .. ولقد أدركت أقواماً ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً .
٣- دخل عبد الله بن محيريز دكاناً يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل قد عَرَفَه لصاحب المحل: هذا ابن محيريز فأحسِن بيعه، فغضب ابن محيريز وطرح الثوب وقال : إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا .
٤- قال ابن عيينة: كان من دعاء المطرِّف بن عبد الله: ” اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت .
٥- كان علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلاً على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة، ولا يعلمون من وضعها، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره .. لئلا يطلع عليه أحد .. وبقي كذلك سنوات طويلة، وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام .. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره ، فما انقطعت صدقة السر في المدينة حتى مات زين العابدين رضي الله عنه.
ولعل من أبرز الإشارات السلوكية والمعاني التربوبية في هذ الميدان-والتي نجعل منها مسك ختام-قول سهل بن عبد الله التستري: “نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنياحيث يقول الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)
نسأل الله سبحانه و تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والصدق في السر والعلن.
أحمد ولد الناجي ولداطفيل