ألم وأمل
في هذا العالم الظالم.. المليء بالخوف والحزن والجوع و…. على أنقاض بشرية تتالت عليها الهزات.. فغدت بعيدة عن البشر أقرب للحيوانات.. يحكمها قانون الغاب.. أقرت الظلم لأن الظالم قوي.. ولم تنصف المظلوم لأنه ضعيف!!.. ثم تدّعي بعد ذاك تقدّمًا عصريًا.. وتزعم أننا في عهد حقوق الإنسان.!!..
أشرقت الشمس الخجلى أخيرًا.. اختفت الغيوم وحلّ الدفء.. انتشرت أشعتها في المنزل العتيق ببلدة سلوان.. كان لنوافذه الكبيرة دورٌ في ذلك.. فهو بناء مهيب ذو طابقين.. تميزه نوافذ كبيرة وشرفات واسعة..
كما في كل صباح.. وقفت صفاء تتأمل بلدتها العزيزة…تفكر فيما آل إليه وطنها الحبيب…ليس اليوم كأي يوم.. وما عاد في الأيام يوم كأي يوم.. فيوم يرقى فيه شهيد.. وآخر يؤسر فيه بطل.. ولكل يوم قصة تختلف عن غيره.. لكن القصص تلتقي في المعاناة والألم والصمود…أما اليوم فهو اليوم الموعود.. الذي حددته سلطات احتلال غاشم لهدم منزلها…هو ليس مسكنًا من حجر بقدر ما هو هوية ووطن.. هو جزء من كيانها يحتل مساحة الزمن…ليأتي بعد ذاك شرذمة من أحفاد الخنازير ليسلبوها الوطن.. وليمحواْ أثر أصحاب الأرض.. لكن هيهات.. فأصحاب الأرض باقون.. تجذرواْ فيها كما الزيتون…
ناهز عمرها الستين.. لكنها لا تزال تحمل أملًا يفيض بالحنين…أُغلقت طرقات البلدة وأخليت المنازل المجاورة استعدادًا لهدمه…وقفت شامخة لتكون قدوة لأبنائها وللأحفاد.. تجاوز عدد الجميع مائة من الأفراد.. لم يغب إلا شهداء أهدوا أرواحهم للوطن…أو أسرى مغيبون خلف القضبان…تجمهر الجمع بأنفاس محبوسة وأنين مكتوم لا يسمعه إلا الله…أعلن دمعها التمرد وحاول الخروج.. لكن أهدابها وقفت كسدٍ منيع.. فكبحت جماح الألم والدموع.. بينما خلّدت بابتسامتها الأمل في الربوع تألمت كثيرًا وما أعمق ألم الروح!!.. تختفي الندبات وتلتئم الجروح… ويبقى الفؤاد يقاسي آلامًا، لا جراح لها حتى تبرأ… وما للأسى فيها حدود. …
تجولت في أنحاء منزلها.. تلقي عليه النظرة الأخيرة.. هنا الردهة الواسعة التي طالما جمعتها ومن تحب.. هنا مطبخ عامر بما لذّ وطاب، أو كان كذلك على الأصح.. فتحت ذراعيها كأنها تحتضن ماضيا جميلا ومستقبلًا كانت تعده أفضل.. تدفقت الذكريات فزادتها حزنًا على حزن.. في كل ركن قصي.. وعند كل غصن شجي.. لها ذكرى ومعهم حديث.. الغرفات الكثيرة والشرفات الواسعة.. شهدت على أفراح العائلة ومسراتها، كما دعمتهم وقت الهزات وآوتهم حين الآلام…
في خمس دقائق.. دمّرواْ ذكريات خمسين عامًا.. هوت الدار وعلت الهمم.. أقسمت في صمتٍ لتنتقمنّ للوطن…نعم، أقسمت في صمت!! فما فائدة الاستنجاد بقوم نيام.. وأمةٍ تغطّ في سبات عميق؟!! مرّ أمام عينيها شريط الذكريات الجميل، بحلوها ومرّها.. تقاسمتها مع منزلها العتيق.. وها هو الآن بات أثرًا بعد عين….
انصرف بنو خنزير برجالهم وجراراتهم.. وقد ظنّوا أن أمل آل صفاء قد سحق تحت سلسلة الجرار.. وما علموا أن الأمل وُلِد بين الركام.. وانبثق يختال بين الصفوف…شيعتهم نظرات عزم حارقة.. تقول في صمت: لن نرحل، افعلوا ما أنتم فاعلون.. ما دام فينا قلب ينبض ولو بقيت في حياتنا لحظة.. فسنجعل تلك اللحظة الفارقة بين الموت والحياة.. حياةً لكل حرّ أبيّ.. موتًا مرًا لكل لئيم خائن….
ولد الأمل.. ولا يولد مولود إلا ودُفِن رفاه.. فأقيم مأتم للألم على أنقاضه يعيش٬ أمل.. به نحيا وبه نستمر… نقاوم بابتسامة.. وبخيام ننصبها فوق أرضنا المغتصبة…. طالت السهرة واستمتع الجمع.. ثم نام آل صفاء قريري الأعين.. ينتظرون فجرًا جديدًا.. يتجدد به الأمل وتقوى به العزيمة….
لم يكن هدم منزلها بِدعًا من سياسة الكيان المحتل.. إنما هو جزء من نهج التهجير القسري الذي يتبعه الغاصب بحقّ أهلنا في فلسطين.. يظنون أن النكبة ستستمر.. هيهات هيهات.. فما تلك إلا أوهام واهية.. وأحلام خالية ..
لم تتحرك صفاء قيد أنملة عن أرضها.. رغم التحذير المستمر من المغتصبين. .فهي بزعمهم -لم تعد أرضها.. وقد تم البناء فيها بأمر غير شرعي…كانوا يزيلون الخيام؛ وسرعان ما تبنى.. ثم يعودون لإزالتها.. فيعاود الأهل نصبها.. وما أكثر اللحظات التي يتحول فيها بصيص أمل إلى إعصار عناد.. لا زال للقصة بقية.. لكنّ مفادها أننا لن نرحل.. بل أنتم عن أرضنا الراحلون.. وكما قيل: يولد الأمل من رحم الألم..
الكاتبة: تسلم محمد غلام