آراء

صرخة وصخرة…..

(جميلة كجمال بيسان..)

فتحت عينيّ لأستيقظ على صوت الرصاص… دوّت صرخات… كنت أعرفها جيّدًا.. هي صرخات أمي… آثرت البقاء مكاني.. فلم يعُد باستطاعتي الحَراك… أفقت من سَرَحاني بعد نصف ساعة.. ما جعلني أفيق هذه المرّة كانت زغاريد… إنها حنجرة جدّتي، جدتي التي طالما صرخت في وجوه أولئك المحتلين أن اخرجوا من أرضنا..

جلست، فركت عينيّ برفق.. سمعتهم يقولون لجدتي مبارك يا أم العريس، سألتها: ماذا يحصل يا جدتي؟ بدأتْ-هي-في قصّ الحكاية بينما عينايَ الكبيرتان تتسعان فضولًا

لطالما سمعت عن اليهود المحتلين وعن مجيئهم المتكرر لبلدتنا، سمعت كذلك عن أعراس تقام خاصة لكل شهيد فقد حياته مهرًا لأرضنا وباع روحه فِدًا لترابها..

هكذا كان خالي محمّد الذي ارتقى شهيدًا في مواجهات مع جنود الاحتلال على تلال البلدة..

 

تلك نبذة صغيرة عما كنت أعيشه وأنا لم أكمل بعدُ العاشرة من عمري.. اعذروني فلم أذكر اسمي ولم أعرفكم بنفسي: أدعى بيسان (كاسم مدينة جميلة من مدننا المحتلة).. أُسِر والدي قبل عدة سنين.. أُسِر   صغيرةً لذا لا أذكره كثيرًا.. والدتي امرأة شجاعة عظيمة، رائعة بكل ما للكلمة من معنى … تزأر في وجه كل غاصب محتل.. تقف شامخة هي ونساءَ البلدة.. فالرجال بين شهيد أو أسير و من بقي منهم قد وقفو أمام الدبابات، بصدور عارية وحجارة يرمونها.. ليس لهم سلاح إلا إيمانهم..

هكذا…فقد تعلّمتُ من أبي أن الأسير لابدّ سيتحرر.. تعلمت من أمي أن الذلة هي قيدٌ بالعز سيكسر…تعلمت من جدتي أن الأرض منا ولنا ما دمنا أسودًا نزأر

 

ما إن مرّت أيام قليلة على تشييعنا لخاليَ الشهيد، حتى أتى الصهاينة مجدّدًا محاصرين بلدتنا.. آهِ يا بلدتي، كم نزف على تربكِ من جرحٍ طاهر، كم سال فوق أرضكِ من دمٍ مبارك، تخوضين معنا هذه الحرب، للحرية أو للشهادة أو الأسر… لا تقولو هذا كلامٌ كبير على طِفلة صغيرة مثلي، فالأطفال هنا إن لم يكبروا قبل أوانهِم؛ ولدو كبارًا.. لذا تُزرَعُ تلك المفاهيم في كلّ قلب، فتصير بذلك جزءًا لا يتجزأ من كيان المرء وانتمائه وهويته؛ تلك الهوية التي تنادي: للأمة، للدين، وللوطن

….اندلعت المواجهات على مشارف البلدة بعد أن حاصرتها قوات الاحتلال، سقط أبناء أرضي بين شهيد وجريح وأسير.. أما الثلة الباقية فقد أخذت ترشق المحتل… حجارة وإيمان.. وأنا معهم، نعم أنا، بيسان!!

 

في خِضَمّ المواجهات واحتدام الكرّ والفرّ.. وضعت قوات الاحتلال المتاريس لتغلق مداخل القرية ومخارجها وبدأت بإلقاء القنابل المسيلة للدموع.. شعرت بالاختناق، كانت الدموع تنسكب من عيني، أحسست أن لا هواء في تلك السماء الواسعة… بينما كنت أحاول أن أستعيد تنفسي ووعيي، التفتّ، وكان ما رأيته -وأنا في تلك الحالة-امرأة مكبّلة، تقتادها قوات الاحتلال إلى المدرّعات، “إنها أمي” صرختُ، بلى هي والله أمي،أ فأفقدها بعدما فقدت والدي؟!  “كلا، كلا “صرختُ ثانية، اندفعت بما تبقى في جسدي من قوة، ثائرةً، صارخةً، معاندةً كل من حاول الإمساك بي…وقفتُ قرب أمي، أمسكت بيديها المكبّلتين، حاولتُ أخذها والهروب بها، لكنها محاولة يائسة، جسدي منهك، نفسيتي متعبة، والأهم هو أن تلك الجندية الإسرائيلية تمسك بيديها وتدفعني بكل قوتها ما إن أقترب  ...

بعد دقائق كانت أطول من دهور.. اختفت أمي داخل إحدى المدرعات التي سلكت طريقها خارج البلدة، لم أعد أرى أمي لكنّ كلماتها الأخيرة لا تزال محفورة في ذاكرتي، “قاومي يا بيسان بكل قوتك، ليس لأجلي ولا لأجلك بل لأجل فلسطين … سنستعيد ثراها ذرة ذرة؛ لذا احذري من التواني عن مقاومة المحتل، بصواريخ.. برصاص… بقلم أو حتى بحجر أو بلسان.. لا تنسي يا بيسان…”.

كانت صرختي قوية، تلك الصرخة التي أدهشت المحتلين

كانت صخرتي صغيرة، تلك التي أدمت وجه ذلك الجندي اللعين

هكذا بصرخة وصخرة أخذتُ أقاوم المحتل وأخذ الأطفال -مثلي- يرشقونهم وهم ينادون: الله أكبر-تحيى فلسطين-الموت للصهاينة… رغم أني أصبت بطلقة جائرة من بندقية محتل، إلا أنني لم أخف، فما عاد للخوف مكان في قلبٍ يملأه حب و حقد: حب للأرض والطين، حقد لمن احتلوا فلسطين….

مرت سنوات على تلك الحادثة.. استشهدت خلالها والدتي داخل السجون، بعد تعرضها للتعذيب في زنازين الاحتلال.. ودعتها باكيةً على فراقها… لكني أقسمت أني سائرة على نهجها… فإما حياة على أرضنا بعز وإباء، أو موت بكرامة مع الشهداء….

هذه ليست حكايتي، أنا بيسان… بل هي حكاية عجب منها الزمان.. حكاية وطن بيع بأرخص الأثمان.. باعه القريب قبل البعيد.. باعه الصديق قبل العدو.. حكاية دماء زكية سالت -ولا تزال تسيل -على تلك الأرض المباركة في انتظار النصر الموعود…{حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد}….

الكاتبة: تسلم محمد غلام

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى