الرضاعة الطبيعية.. خيار يفرض نفسه
تغرق دول الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى أسواق العالم المتخلف- خاصة في إفريقيا وآسيا- بمنتجات أقل ما يقال عنها إنها “جنود مجندة” لمحاربة الرضاعة الطبيعية واستبدال “لبن الأم” بألبان مصنعة لا يملك سر تركبيها و”تهجين” عناصرها إلا القائمون على صناعتها بداية من الدراسة العلمية, مرورا بمراحل الاختبارات والتجارب, ثم الخلط والتركيب, فالإنتاج والتعليب..
إن تلك العملية حولت دول العالم الثالث إلى مجرد “مكب ضخم” لنفايات صناعة أثبتت عدم جدوائيتها حتى في عقر دارها, فالدول المتقدمة مثل أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي اكتشفت منذ سنوات -وربما متأخرة- أنه لا بديل للرضيع عن لبن أمه, ولذلك لم تعد متحمسة لإعطاء الأطفال الرضع ألبانا بديلة, واتجه حماسها بالمقابل لإفراغ مصانعها ومخازنها من ملايين الأطنان من “الألبان الصناعية” و”الرضاعات” و”المصاصات” وغيرها من وسائل الرضاعة البديلة في أسواق الدول الأكثر تخلفا وفقرا..
لقد رفع العلماء والمصنعون والباحثون في الدول المتقدمة الراية البيضاء- ولو سرا- إيذانا بعجزهم عن إيجاد بديل للبن الأم ,حتى مع إصرار مصنعي الأدوية وسماسرة المستحضرات الطبية على إغواء بعض الأطباء والمهتمين بالميدان, وحملهم على القيام بحملات معاكسة لمحاربة الرضاعة الطبيعية, والبحث عن مسوغات من أي نوع لإقناع الأمهات بالإقبال على الألبان المعلبة -والتي لا تعطي سرها الصناعي والعلمي إلا للذين قاموا بتركيب وخلط عناصرها- تحت يافطات من قبيل “عجز الأم عن إرضاع ابنها”, و”عدم توفر الأمهات لأسباب اقتصادية على تغذية مدرة للبن الطبيعي الصحي القادر على تغذية الرضع”.
إن علينا أن نتذكر أن علماء الدول المتقدمة- بالتعاون مع الأطباء والباحثين والمصنعين- حاولوا باستماتة استنساخ لبن الأم وتحويل علبة اللبن الصناعي إلى “ثدي بديل” فدرسوا لبن الأم ,وحللوا مكوناته وفككوا إلى حد ما مركباته الأساسية -وإن بقي معظمها غامضا بالنسبة لهم لحكمة إلهية بالغة- فجمعوا كل ذلك, وأنفقوا سنوات طويلة في الدراسة والبحث والتجارب المخبرية والصناعية ,لينتجوا لبنا واحدا بمسميات عديدة تتبع للشركات والمخابر المنتجة له ,غير أنه لم يكن أكثر من لبن صناعي ناقص وغير متكامل مقارنة بلبن الأم الطبيعي الذي أثبتت كل الدراسات أنه معجزة إلهية خارقة, فهو يجمع- إلى طبيعته الغذائية المتكاملة- طبيعة علاجية دوائية حيرت العلماء والباحثين عبر العالم والذين أجمعوا على أن له خصائص لا يمكن توفرها في غيره فأي لبن في العالم بمقدوره مثلا أن يخلق حبا وألفة وحنانا وحميمية دائمة بين الطفل الرضيع و أمه إذا لم يكن ثدي تلك الأم هو المصدر الوحيد له؟
لقد واجه مصنعوا الألبان البديلة مشكلة حقيقية إذ أن الرضيع الذي ينشأ معتمدا على الألبان البديلة لا تمكن مقارنته بالرضيع الذي يكمل حولين كاملين” لنلاحظ هنا أيضا الإشارة الشرعية الواضحة لذوى الألباب بأهمية تباعد الولادات وهي أهمية أكدها الطب الحديث ودعا لانتهاجها سبيلا لتنشاة أطفال مكتملي النمو البدني والعقلي عكسا لما ينتج عن تقارب الولادات من أضرار ومخاطر صحية ونفسية واجتماعية علي الأطفال وأمهاتهم” في حضن أمه التي ترضعه لبنا صرفا طبيعيا يغذي الجسم ويساعده على النمو ويغذي العلاقة النفسية والاجتماعية بين الرضيع وأمه,فالرضع الذين ينشأون على الألبان البديلة يواجهون مشاكل عديدة ليس أقلها شأنا الابتعاد النفسي والاجتماعي عن أمهاتهم والارتباط بدلا منهن بمصاصات أو علب جامدة بلا مشاعر وبلا أحاسيس..
صحيح أن الرضيع قد يفقد أمه أثناء الولادة أو بعدها, وقد يصبح من الواجب طبيا -وحتى شرعيا -البحث له عن” رضاعة بديلة” عندما تصاب والدته بمرض يعيق قدرتها على إرضاعه فحينها يصبح الرضيع ضائعا يتيما لأنه فقد سر الارتباط بأمه وأعظم غذاء يمكن أن يحصل عليه في العالم, ومع ذلك لا يطرح كل الأطباء في هذه الحالة الألبان المصنعة كبديل وحيد, فأحيانا يرى بعضهم إمكانية الاستعاضة بلبن مشابه كلبن الماعز والضأن وإن رأى البعض عدم جدوائية تلك الألبان إلا أنها على أية حال تحافظ للرضيع على غذاء ناقص ولكن أملته ضرورة “تبيح الممتنع” أحيانا..ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن نقل الرضيع إلى حضن امرأة أخرى- وهو أمر شائع في مجتمعنا- يخلق مشاكل عديدة لا نعني بها المشاكل المتعلقة بفقه المراضع وتأثيره على مستقبل الرضيع من النواحي الاجتماعية والنفسية ,بقدر ما نعني أن الرضيع قد يكتسب من أمه البديلة صفات أو أمراض أو ارتباطات قد تلعب دورا سلبيا في تكوين ملامح شخصيته مستقبلا.
ومن الواضح أن انتشار “الرضاعات الصناعية” و”الألبان المهجنة” في المجتمعات الإسلامية خصوصا أحدث فوضى عارمة عصفت بفقه المراضع وخرائط الأنساب والأرحام لدرجة أنك مستقبلا عندما تجد شخصا من الجيل الذي أرضع بطريقة غير طبيعية يبحث عن” طالبة حلال” فإنك قد لا تسأله “هل أرضعتك فلانة”؟ و”هل أنت محرم لهذه الفتاة التي تقدمت لخطبتها أم لا؟” ولكن تسأله- لكي تكون منصفا ولينا معه- “هل أرضعتك شركة الألبان الألمانية أم أرضعتك شركة الألبان الهولندية وابن أي نوع من المصاصات أنت”؟
ونفس السؤال قد تطرحه على الفتاة أيضا فهما من نفس الجيل الذي يقال على سبيل التندر إن ولاءه وبروره “للبيبرونه” يفوق ولاءه وبروره لوالدته التي أنجبته!!
إننا لا نريد إغلاق الباب أمام ألبان بديلة في حالة عجز الأم المرضعة عن القيام بواجبها تجاه رضيعها ولكننا نريد القول -دون غموض- إن لبن الأم خيار فرض نفسه على الجميع وإلا فلماذا لا يستهلك الأوروبيون والأمريكيون ألبانهم المصنعة لأطفالهم الرضع بدلا من إغراقنا بها؟
“إن ثدي الأم -حتى ولو كان جافا غير ندي باللبن- أفضل لرضيعها ألف مرة من كل ألبان العالم الأخرى..”
مقولة يرددها أطباء الأطفال كثيرا فهل حان الوقت للإيمان بها والدفاع عنها؟ نعم لقد حان الوقت- بل أصبح متأخرا- لتشجيع الرضاعة الطبيعية التي حث عليها الشرع الإسلامي لما تعنيه من بسط لجسور التآلف والمودة وصلة الرحم بين الأفراد وحفظ الأنساب والأرحام خاصة بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية وحث عليها الطب الحديث لما تعنيه من غذاء ودواء ونمو بدني ونفسي واجتماعي يحفظ للأم ورضيعها علاقتهما الحميمية ويبقيهما دائما قريبين من بعضهما في جو من الحنان والدفئ والمودة والحب.
حبيب الله ولد أحمد “كاتب صحفي”
ممرض تقني في الأشعة
المركز الوطني لأمراض القلب