خارج نطاق الزمن
يستيقظ الناس كل صباح… ليسمعواْ زقزقة العصافير ويشتمّوا نسيم الشروق العليل.. ينتظرون الشمس المتوارية خلف الأفق لتشرق مجددًا ويعمّ البِشْرُ بنورها.. لكنه ليس كذلك.. لطالما استيقظ على أصوات الرصاص أو حناجر المحتجين.. ليرتدي معطفه على عجالة وينطلق.. يحمل آلة تصوير بين يديه.. كما يحمل همّ إيصال رسالة شعبه على كاهله…
ذات يوم.. وأنّى له أن يتذكر أيّ يوم هو.. إنما باتت أيامه كأبيات القصيدة الواحدة.. رغم اختلاف كل بيت عن صاحبه إلا أنهم يشتركون الروي ذاته.. حمل الكاميرا وأقبل يخترق الصفوف… كانوا مجتمعين لتشييع جثمان شهيد سقط برصاصة محتلٍ جائر.. لا لذنب اقترفه؛ غير أنه كان يمشي بجوار ذاك الجندي عائدًا لمنزله.. فارتعدت فرائص “المسكين” المدجّج بالسلاح خوفًا من رجل أعزل… فرماه برصاصة في رأسه أردته قتيلًا ولم يحاسب الجاني؛ بل عوقب المجنيّ عليه… حيث انطلقت “شرطة” الاحتلال تفرق المشيعين وترمي القنابل المسيلة للدموع.. تَشتّتَ الجمع واندلعت المواجهات.. لكنّ أحمد الذي عُرِف بشجاعته تقدّم حتى صار بين الفريقين.. ثم أقبل يصوّر ما يدور برباطة جأش منقطع النظير
كان ذاك الجندي اللعين.. ذو البطن العملاق هو أشدهم بأسًا على المتظاهرين.. يزجر.. يضرب بعصاه.. ثم يستند على ركبتيه ليلتقط أنفاسه؛ فهو لا يتحرك أو يتنفس إلا بصعوبة بالغة بسبب سمنته المفرطة…. انتبه فجأة لوجود أحمد.. فانتابته موجة غضب مزلزلة… وانطلق نحوه عازمًا على جعله يندم…
فوجئ أحمد بالشرطي ورفاقه ينهالون عليه بالضرب والشتائم… ثم اقتادوه مكبّلًا إلى إحدى سياراتهم… ليتلقى فيها ألوانًا من الضرب والتنكيل… سقط على إثرها مغشيًا عليه.
لا يعلم كم مضى من الوقت على اعتقاله… “كوكتيل” الروائح التي يشتمها و خليط الأصوات التي يسمعها جعلته على شفا حفرة من الجنون.. فُتحت زنزانته.. أخرجوه بعنف للتحقيق معه كما زعمواْ.. وللنيل منه كما يرى… سألوه عما كان يفعل أثناء تواجده في المواجهات…أجاب بأنه يوثق فقط ما يجري من أحداث.. اقترب منه اللئيم ذو البطن العملاق .. وأخذ ينصحه أن يعترف بأنه أراد مهاجمتهم، وإلا(..)… ثم أزاح اللثام عن أسنان صفراء وليته ما ابتسم!… لم يقبل أحمد عرضهم رغم علمه أن للرفض ضريبته…لكمه القبيح لكمةً أطاحت به وما لبث أن انقضّ عليه.. تتالت الضربات وأخيرًا رموه بوحشية في زنزانة مظلمة.. يكاد البرد فيها يخترق عظامه.. وما من مفر..
مرّ أسبوع-كما يظن-وهو على هذه الحال.. بعدها تمّ نقله إلى معتقل آخر.. فقد اتضح لهم أخيرًا أن أحمد -وهو سليل الجبارين- لن يرضخ لمساوماتهم.. ويبدو أنه ليس الوحيد.. فقد امتلأ المعتقل عن آخره بأبناء شعبه ممن لم يرضواْ الذل ولا العار.. واختارا أن يشترواْ بحرياتهم تحرير الوطن.. “خارج نطاق الزمن”…ممنوعون-هم-من التواصل مع ذويهم…لا محاكمات ولا زيارات.. كم اشتاقواْ لعائلاتهم.. لبلداتهم.. وكل منهم له حكاية تقطر ألمًا وتضحية..
أخيرًا.. بعد سنتين من السَّجن.. سمح الاحتلال لأخته بزيارته (بصفتها محاميةً) يفصلهما حاجز زجاجي ولا كلام إلا عبر سماعة الهاتف.. كان اللقاء في أقل من عشر دقائق.. خرجت بعدها مكرهة.. علمت منه فيها أن الكاميرا التي كانت لديه أثناء المواجهات هي عند جارهم عمر.. كان قد أخبره على عجالة أن يحرص عليها وأن لا يعطيها لغيره حتى يأتي لأخذها بنفسه.. أخبرها كذلك أنه وثّق بها كثيرًا من انتهاكات قوات الاحتلال…
لم يخبرها بكل ذلك عبر الهاتف بالطبع؛ فكل مكالمات السجن يُتنصّت عليها.. إنما تحدثواْ بلغة الشفاه.. يحرك فمه فتفهم هي الكلمات دون صوت، وهكذا
حينما تكون باحثًا عن حريتك.. ساعيًا لنصرة وطنك.. إذًا فكل شيء سلاح بالنسبة لك.
مضت أعوام على تلك الحادثة.. ومن خلف القضبان يستنشق أحمد عبير الحرية بالرغم من سلاسله وجلاديه.. وهو ليس وحده.. كلنا أسرى.. ويومًا ما.. سننتصر ونصبح أحرارًا بحق..
الكاتبة: تسلم محمد غلام.