رغم أن طول شواطئ موريتانيا على المحيط الأطلسي يزيد على 700 كلم ويزخر بجميع أنواع الأسماك، فإن فئة قليلة من الموريتانيين هي من استدبرت الصحراء وولت وجها شطر البحر، وذلك منذ مئات السنين، هذه الفئة تعرف لدى الموريتانيين بمجتمع “إمراگن” وهو مجتمع لا يجمعه، في الغالب، نسب واحد بقدر ما تجمعه وتميزه مهنة واحدة هي: صيد الأسماك ومعالجتها.
ينتشر مجتمع “إمراگن” على طول الساحل الموريتاني من الرأس الأبيض (نواذيبو) شمالا، إلى “انجاگو” جنوبا، لكن كثافته في الواقع تتمركز في المنطقة الواقعة بين “بلواخ ” 40 كلم شمال نواكشوط و”نوامغار” وجزيرة “أكادير” شمالا.
واحد هذا المجتمع يسمى آمريگ فيما يطلق على واحدة اسم “التامرگيت” والتي هي موضوع مقالنا هذا.
لقد ظلت “التامرگيت” تلعب دورا بارزا في مجتمع “إمراگن”؛ فهي بالإضافة إلى دورها التقليدي: (تربية الأطفال وتحضير الطعام للزوج…)، تقوم بمعالجة الأسماك التي يصطادها الرجال، حيث ينتظر نساء “إمراگن” المراكب الشراعية والزوارق على الشاطئ دون أن يدخلن البحر لأن المعتقد السائد هناك أن دخول النساء للبحر يغضبه ويثير هيجانه كما يفزع الأسماك أيضا، ويتطير “إيمراكن” منه، وعليه فلا تعجب إذا رأيتهم يغضبون بشدة من اقتراب النساء من البحر، وخاصة القادمات من خارج المنطقة، لأن “التيمرگاتن” تربين على أن لا يقتربن مطلقا من البحر ، فإذا أرادت إحداهن أخذ غرفة من مياه المحيط، وخاصة لغرض طهي رؤوس الأسماك لاستخلاص الدهون منها، فإنها تنتظر حتى يعود الموج ثم تحفر حفرة في الرمل يجتمع فيها بعض ماء البحر في حالة المد، لتعود بسرعة لغرفه قبل أن تمتصه الرمال الناعمة، وبهذه الطريقة تتجنب ملامسة أمواج البحر وغضبه!
وتحصل “التامرگيت” على أسماك البوري (أزول)، غالبا بالمجان، فأول ما يقوم به الرجال العائدون من رحلات الصيد، هو توزيع الأسماك على النساء الجالسات في انتظارهن حيث يوزع بعدالة بينهن بغض النظر عن درجة القرابة، حتى ولو اقتضى الأمر أن يقدموا لهن كل “ما جاءت به الشبكة” خاصة في الأيام التي لا يكون فيها الصيد وفيرا.
النساء يحملن ما تحصلن عليه إلى “أعرشة” المعالجة حيث يوقدن النيران ويحضرن القدور ثم يقمن باستخلاص البيض أولا من بطون الأسماك ونقعه في الماء المملح لمدة نصف ساعة، قبل بيعه لوسطاء يبيعونه بدورهم لشراكات تقوم بمعالجته وتصديره؛ بعدها يضعن رؤوس الأسماك في القدور لطهيها بمياه البحر وهي عملية تستغرق عدة ساعات، وقد تتواصل إلى وقت متأخر من الليل قبل أن يعزلن الدهن ويضعنه في القوارير الزجاجية والقنينات البلاستيكية ليتم بيعه لاحقا للمشترين أو المتداوين(الكيطانة)، أما السمك فيتم شرحه إلى نصفين ورشه بالمياه المملحة ونشره على حبال وتعريضه لأشعة الشمس لمدة أربعة أيام في المتوسط قبل أن يصبح
جاهزا للبيع أو الاستهلاك محليا من طرف السكان و (الكيطانة). وحتى عظام الأسماك تسحق كذلك لتصبح دقيقا لذيذا غنيا بمادة الأوميغا 3.
وتعتبر “التامرگيت” خبيرة في مجال الطب البديل ومختصة في علاج كثير من الأمراض المستعصية بالأسماك ومشتقاتها وخاصة الدهون والقديد (التيشطار)، حيث يحضر الناس في موسم الكيطنة من أجل التداوي تحت إشراف نساء “إمراگن” اللاتي يشرفن على معالجتهم ويسهرن على نظامهم الغذائي الصارم.
يبقى أن نشير إلى أن اقتصاد “إمراگن” ونمط عيشهم المتوارث، أبا عن جد، بات مهددا بقوة، بسبب ندرة أسماك البوري (ازول) وهجرتها إلى أعالي البحار ،خاصة مع النقص الكبير في عدد الدلافين في المناطق القريبة من الشاطئ وهي التي ظلت على مر العصور “صديقة” لمجتمع إمراگن و”تتعاون” معهم في اصطياد أسماك البوري كما هو معروف، إذ كان صيادوا “إيمراكن” يضربون البحر بالعصي فيحدثوا صوتا يشبه الصوت الناجم عن تطاير سمك البوري في البحر ، مما يجعل الدلافين تتجه إلى مصدر الصوت وفي طريقها تطرد الفريسة إلى الشاطئ حيث تقع في شبابيك صيادي “إمراگن” الجاهزين لاصطيادها، وما ينجوا منها يصبح لقمة سائغة للدلافين التي تحاصره من الجانب الآخر.
الكاتب: محمدن ولد عبدالله