حتى لا ننسى

شهيدتي الثانية..

تخرج الممرضة على عجل تبشر العائلة الجالسة في رواق المستشفى أمام غرفة الولادة.. (بنتٌ) تقول.. فتنفرج شفتا الأب الحنون عن ابتسامة ويبدأ لسانه بالحمد.. يقترب من والدته ليحمل من حضنها ابنته الأخرى ذات العامين ويدور بها في فرح.. (أصبحت لديكِ أخت صغيرة) يقول في سعادة.. تبتسم ‘سوار’ دون أن تفهم.. تُخرج الممرضة الوليدة فيتلقاها والدها ببِشر.. يردد الأذان والإقامة في الأذنين الصغيرتين..(‘سيلينا’؛ سنسميها ‘سيلينا’)..

 

تتربى الأختان في دلال وعز بين أبوين يمنحان الحب بسخاء قبل كل شيء.. وخلافا للتوقعات.. لم تشعر سوار بالمنافسة ولم يُشعل وجود أختها الصغرى مشاعر الغيرة في قلبها.. بل ظهرت محبتها لها منذ أيامها الأولى في هذه الدنيا.. وما إن جلست الأم في منزلها بتعب بعد أيام في المستشفى والرضيعة بين يديها حتى ركضت سوار تجلب لأختها ألعابها تريد أن تشاركها اللعب منذ الآن!..

 

منذ ذلك اليوم والأب يشتري كل شيء مضاعفا.. الالعاب والفساتين والحلوى.. لكنه لم يكن يعلم أن الألم سيكون مضاعفا أيضا!..

 

يبدأ العدوان على القطاع الصامد وتتساقط صواريخ الموت في كل مكان.. ومن أخطأته اليوم أصابته غدا.. أمر الموت في غزة مجرد وقت!..

 

تلجأ الأسرة الصغيرة إلى أقرباء لها في المنطقة التي يدعي الاحتلال أنها “منطقة إنسانية”.. والنزوح شيء يشبه مغادرة الروح للجسد لكنها لا تغادر بل تذبل بخفوت.. تلقي الأم نظرة أخيرة على البيت الصغير المرتّب.. تحمل ابنتيها وحقيبة فيها ما تسنى لهم حمله من ثياب وأغراض..(الحمد لله) تتمتم بحزن..

 

بعد ليال من النزوح وأيام من المجاعة تستيقظ الحارة كلها على وقع انفجارات هزت المدينة الصغيرة..

هناك في القاهرة.. قريبا وبعيدا في ذات الوقت.. تتلاشى أماني الوالد المغترب بحثا عن لقمة عيش لبناته.. تجف أدعيته على لسانه.. لا يقبل العقل المصدوم أو القلب المكلوم تصديق الحقيقة.. الحقيقة المرة أنه فقد ابنتيه للأبد!.. الحقيقة أنه لن يراهما ثانية. لن يلاعبهما.. لن يفرح بهما.. ذهبتا للأبد.. بحنانهما الطفولي ولعبهما العفوي.. لن يرتديا فستانا اشتراه ولن يأكلا حلوى جلبها معه..

 

يصرخ بعد طول صمت (صغيرتان هما على الموت!)..

الكاتبة: تسلم محمد غلام 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى